تأملات في السينما الشعرية

(محاولة لإيجاد نقاط التناص بين بعض المفاهيم السينمائية و الشعرية الحديثة)
عندما أعود للماضي البعيد, وأعني بالتحديد ماضي تحولات المفاهيم الشعرية التي مررتُ بها متأثرا بعدة عوامل خارجية وداخلية منذ أن تبرعم الشعر في ذاتي ونما نصا فنصا, على مدى هذه الحياة العابرة التي طاردت فيها ومازلت غزلان الأدب والفن والجمال في غابة العمر الموحشة, أتذكر عدة “صدمات شعرية” -إن صحً التعبير بذلك-, كونت لدي رؤى حياتية وشعرية مختلفة ووسًعت من مدارك الشعر ورؤيتي الذاتية له أكثر فأكثر.
والسينما كذلك لم تخل من صدمات تسبّبت في توسّع إدراكي لهذا الفن السابع وانقداح شرارة التحولات في المفاهيم السينمائية التي صاحبت رؤيتي له فيلما ففيلما. وأول صدمة سينمائية أصابتني هي الصدمة التي صاحبتني عند مشاهدة فيلم ( المطارد/ (Stalker للمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي الذي أخرجه عام 1979 م حيث كانت أبجديات الفيلم مختلفة كليا عما هي مألوفة بالنسبة لي, وأعني بذلك التقنيات “الهوليوودية” التجارية على وجه الخصوص.
بعد هذه المقدمة التي كانت شرا لابد منه أدخل إلى المقاربة بين الشعر كلغة مكتوبة وبين الشعر كصورة مرئية سينمائية!
وهنا سأختار شخصيتين بارزتين أثرتا على مفهوم الشعر والسينما على حد سواء, هما الشاعر والمفكر الكبير أدونيس, والمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي.
وقبل ذلك أيضا علي أن أوضح ماهو المقصود ب (السينما الشعرية).
في الواقع مفهوم (السينما الشعرية) ضبابي ومُلتبس إلى حد ما حتى عند الكثيرين من النقاد والمخرجين أنفسهم, ولكني أميل للرأي الذي يقول بأن السينما الشعرية (لا تعني أن نعالج قصيدة شعرية سينمائيا)*1, أي أن يكون الفيلم مبنياً على نص شعري كما هو فيلم (تروي/Troy) أو (حصان طروادة) المبني على النص الشعري الملحمي ل (هوميروس) في الإلياذة والذي أخرجه المخرج الألماني ولفغانغ بيترسن/ Wolfgang Petersen والذي أدى فيه دور (أخيليس/ Achilles ) الممثل الأمريكي براد بيت/ Brad Pit عام 2004م .
إنما (السينما الشعرية) –كما يعبر بذلك المخرج السويدي انجمار بيرغمان- (سينما أحاسيس)*1. أو كما يصرح المخرج والشاعر الفرنسي جون كوكتو بأن (السينما الشعرية سينما تفكير, فالمشاهد مُطالب بأن يفكر ويحلل وأهم شيء أن يحس)*1
ومن هذا الباب نفهم أن السينما الشعرية هي في العمق معالجة الفيلم بجميع أبجدياته معالجة شعرية من الجذور تتناص مع المفاهيم الشعرية –الحديثة- بشكل خاص, أي أنّ السينما الشعرية هي محاولة كتابة قصيدة ما بالأدوات البصرية!
ويُعتبر الشاعر والمخرج الإيطالي الكبير( بازوليني / Pasolini 1922-1975) هو أول من أطلق هذا المسمى وعالجه نقديا في نصه النظري (السينما الشعرية) المنشورعام 1965 م وإن كان سبقه في ذلك (الشكلانيين)* الروس في رصد ملامحها الأولية*2.
يرى بازوليني على أن جوهر اللغة السينمائية هي لغة شعرية تتكئ على سيميولجية الصورة المرئية (علم الإشارات) وهو الذي يقف بالضد من المفهوم الشائع للسينما ولغته السردية/النثرية المتكئة على المفهوم القصصي والحبكة الدرامية. ويُقسم بازوليني نظريته عن السينما الشعرية إلى قسمين رئيسيين هما (الصورة الإشارية, والخطاب الحر غير المباشر)*3
و من باب هذا التقسيم يمكن أن نقارب هذه الرؤية السينمائية مع اللغة الشعرية الحديثة من حيث قابليتهما للتأويل اتكاء على ما تحمل من إشارات ورموز دلالية مرئية كانت أم مكتوبة.
لكن يرى بازوليني أن الكاتب الأدبي يمارس دور واحد بتقنية أحادية هي “الكتابة” بينما السينمائي يمارس دورين مزدوجين:
الأول لغوي تقني عن طريق جمع الصور/المفردات من منابع كثيرة كالذاكرة والأحلام ومحيط السينمائي الخارجي ولثاني هو ترتيب هذه الصور في عملية الإنتاج لإيصال المعنى أو الشعور المنشود للمشاهد.
ومن هنا يطرح بازوليني في نظريته تساؤلات عميقة كـ(كيف يمكن للغة الشعر أن تتحقق في السينما؟ وهل حقا هذه اللغة ممكنة في السينما؟! وهل يمكن لأسلوب (الخطاب الحر غير المباشر) (الذي طالما ميز الشعر) يجد طريقه للصورة السينمائية؟!) *2
ولكي يجيب بازوليني على هذه التساؤلات يقوم على تحليل مايسميه بـ(مفهوم اللغة الشعرية التقنية) وهي ( الذاتية والأسلوب ودرجة الوعي) وهو مايتقاطع تماما مع مفهوم تاركوفسكي للسينما الذي يرى بأن الفيلم لابد أن يحمل طابع الذاتية والرؤية الخاصة للمخرج للحياة القائمة على مخزون الذاكرة وعبث الأحلام ورمزيتها الدلالية كما أشار لذلك في فيلمه الوثائقي ( رحلة عبر الزمن/Voyage in Time) الذي وثق فيه رحلته مع الشاعر والسيناريست الإيطالي الكبير تونينو جييرا عام 1983 م في البحث عن موقع لتصوير فيلمه القادم هناك (حنين/Nostalgia). فعندما كان يقرأ عليه سؤالا من أحد محبي تاركوفسكي عن ماهي توصياته الرئيسية التي يود أن يقدمها للمخرجين الشباب المبتدئين فيجيب بذلك عليه أنه (على المبتدئة ألا يفصلون أعمالهم, أفلامهم, أشرطتهم السينمائية عن الحياة التي يحيوها, وألا يؤسسوا لاختلافٍ فيما بينهم وبين سينمائهم لأن المخرج كأي فنان آخر , الرسام, الشاعر, والموسيقي, وعندها فإنه مطلوب منه أن يُشرك ذاته الخاصة. إنه من الغريب أن ترى مخرجين يتعاطون مع أعمالهم كوضع خاص مُنحوا إياه عبر القدر, وأنهم أنجزوا عملهم ببساطة بشكل يدعو للمفخرة ,هكذا بأن يحيوا بطريقة ما, وأفلامهم تحكي عن أشياء أخرى……إلخ).
اترك تعليقاً